الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قال: رجل من المحصورين قال للمسلمين: أفتح لكم الحصن على أن تؤمنوني على فلان رأس الحصن. فقالوا: نعم ففتح الحصن فهو والرأس آمنان. لأنه صرح باشتراط الأمان لنفسه وللرأس على فتح الحصن فإنه أضاف الأمان إلى نفسه بالكناية والى الرأس بالتصريح باسمه ووصل كلمة على الذي هو للشرط به وكذلك لو قال: أنا آمن على فلان رأس الحصن إن فتحت الباب. فقالوا: نعم وهذا لأن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فإذا ذكر في موضع الجواب يصير الخطاب معاداً فيه فكأن المسلمين قالوا له: أمناك على فلان رأس الحصن على أن تفتح الباب وفي هذا إيجاب الأمان لهما بمنزلة ما لو قالوا: أمناك على أهلك وولدك أو على أهلك ومالك على أن تفتح الحصن ولو كان قال: اعقدوا لي الأمان على فلان فهما آمنان أيضاً. وكذلك لو قال: اجعلوا لي الأمان على فلان لأنه صرح باشتراط الأمان لنفسه ولفلان. وهذا بخلاف ما قال في الباب الأول آمنوا لي عشرة. فإنه لا يتناوله الأمان لأن تقدير كلامه هناك آمنوا لأجلي فلا يصير مضيفاً الأمان إلى نفسه بل يصير ملتمساً الأمان لعشرة منكرة متشفعاً في ذلك. وكم من شفيع لا حظ له فيما يشفع فيه ولا يتحقق هذا المعنى هنا فإن قوله: اعقدوا لي الأمان تصريح بإضافة الأمان إلى نفسه. ولأنه قال على فلان ولو حملنا قوله على معنى الشفاعة لم يبق لقوله: على فائدة بل يصير كلامه اعقدوا أو اجعلوا لأجلي وبشفاعتي الأمان لفلان. وكلمة على للشرط فلا بد من إعمالها إذا صرح بها وذلك في أن يلتمس الأمان لنفسه ويشترط أمان فلان معه. وفي ولو قال: عاقدوني على أن الأمان على رأس الحصن فالرأس آمن والمتكلم فيء لأنه أضاف العقد إلى نفسه دون الأمان. وكم من مباشر للعقد لا حظ له من المقصود بالعقد خصوصاً في هذا العقد الذي لا تتعلق الحقوق فيه بالعائد. ولا بد من الإضافة إلى من يقع العقد له ألا ترى: أن المسلمين لو قالوا: عاقدناك الأمان على الرأس إن فتحت. فكان الأمان على الرأس دونه. لأن المعاقدة على ميزان المفاعلة فيه يصير العقد مضافاً إليه دون ما يتناوله العقد وهو الأمان ثم إنما يأمن الرأس وحده ولا يدخل في الأمان عياله ورقيقه في هذين الفصلين لأن الأمان له بعد الفتح وتمام القهر وفي مثله لا يدخل إلا ما عليه من اللباس. ولو قال: عاقدوني الأمان أو اكتبوا إلي الأمان على فلان. فقالوا: نعم فالأمان لفلان دونه لأنه التمس أن يكتبوا إليه أمان فلان. والمكتوب إليه قد لا يكون ذا حظ من المكتوب فهذا وقوله: عاقدوا لي سواء ووقع في بعض النسخ: اكتبوا لي الأمان على فلان وهو غلط فإن قوله: اكتبوا لي الأمان كقوله: اجعلوا لي الأمان. لأن فيه تصريحاً بإضافة الأمان المكتوب إلى نفسه فعرفنا أن الصحيح: اكتبوا إلي. ولو قال: اعقدوا لي الأمان أو: عاقدوني على الأمان على عيالي أو قال: على ولدي أو على مالي أو على قرابتي. فهو آمن وجميع من اشترط عقد الأمان عليه. أما في قوله: اعقدوا لي فهو غير مشكل. وأما في قوله: عاقدوني فهو لا يدخل في الأمان في القياس كما في الفصل أحدهما: أن في كلامه دلالة اشتراط الأمان لنفسه لأنه شرط الأمان لولده ولعياله والمقصود به إبقاؤهم. وإنما بقاؤهم ببقائه على وجه يعولهم بعد هذا كما كان يعولهم من قبل. ولا يتحقق هذا إلا إذا تناوله الأمان فإنه إذا قتل أو استرق لا يعولهم بعد ذلك. وهذا في قوله: على مالي أظهر. لأنه لا غرض له في طلب الأمان لماله سوى أن يبقي على ملكه فيصرفه إلى حوائجه ولا يكون ذلك إلا بعد أن يثبت الأمان له ولأنه ليس بسفير في هذا العقد. فالعاقد على مال نفسه يكون عاملاً لنفسه ولا يكون سفيراً عن غيره. وكذلك في حق العيال والولد لأن قصده إلى استنقاذهم لحاجته إلى ذلك حتى يقوموا بمصالحة أو لإظهار الشفقة عليهم وذلك في حق نفسه أظهر. فعرفنا أنه طلب الأمان لنفسه دلالة بخلاف ما سبق. ولو قال: عاقدوني على الأمان على عيال فلان أو على ولد فلان. فهو لا يدخل في الأمان لأنه ليس في كلامه دليل على طلب الأمان لنفسه فإن بقاء عيال فلان غير متعلق ببقائه وبقاؤه غير متعلق أيضاً بقيامهم بمصالحه. فكان هذا وقوله على رأس الحصن سواء ولم يذكر أن فلاناً المنسوب إليه العيال والولد هل يدخل في هذا الأمان أم لا وعلى أحد الطريقين الاستحسان ينبغي أن يدخل لأن بقاء عيال فلان على ما كانوا عليه يتعلق بأمان فلان وعلى الطريق الآخر لا يدخل لأن المتكلم أظهر الشفقة والترحم على ولد فلان وعياله وذلك لا يكون دليلاً على شفقته على فلان ثم أوضح هذا بما: لو قال الرأس: عاقدوني الأمان على أهل مملكتي أو على بيتي فإنه بهذا اللفظ يعلم كل واحد أن مراده إبقاء نفسه على ما كان عليه متصرفاً في مملكته وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت الأمان. ولو قال: اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن أفتحه لكم فهو آمن وأهل الحصن من بني آدم فأما الأموال والسلاح والمتاع والكراع فهو فيء لأن ثبوت الأمان بعد فتح الباب. وفي مثله لا تدخل الأموال تبعاً ألا ترى أنهم شرطوا له ذلك جزاء على فتح الباب ولو تناول الأمان جميع ما في الحصن من الأموال والنفوس لم يبق للمسلمين فائدة في فتح الباب فبهذا يتبين أنهم قصدوا ذلك ليتوصلوا إلى استغنام الأموال ولأن في اشتراط فتح الباب دليل على أن الذين تناولهم الأمان غير مقرين على السكنى في الحصن وإنما تدخل الأموال في الأمان لأن التمكن من المقام بها يكون فإاذ انعدم ذلك المعنى هنا لا يدخل المال. ولو قال: اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن أدلكم على الطريق إلى موضع كذا ففعلوا وفتح الحصن. فجميع من في الحصن وجميع ما فيه داخل في الأمان هنا لأن شرط الأمان هنا جزاء على الدلالة لا على فتح الباب ففي كلامه بيان أنه يدلهم ليتمكن القرار في حصنه مع أهل الحصن على ما كانوا من قبل. وفي مثل هذا الأمان تدخل الأموال. وكذلك لو قال: اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن تدخلوه فتصلوا فيه. فليس لهم قليل ولا كثير من النفوس ولا من الأموال لأن في كلامه تصريح بما هو فائدة فتح الباب وهو الصلاة فيه دون إزعاج أهله منه. وقد يرغب المسلمون في ذلك ليفشو الخبر بأن المسلمين صلوا بالجماعة في حصن كذا فيقع به الرعب في قلوب المشركين أو ليعبد الله في مكان لم يبعده في ذلك المكان أهله. ومكان العبادة شاهد للمؤمن يوم القيامة كما ورد به الأثر. ولو قال: أمنوني على أهل الحصن على أن تدخلوه ولم يذكر غير ذلك فهذا الأمان على الناس خاصة لأن فائدة دخول الحصن: الاستغنام هو الظاهر وما سواه محتمل. ولكن المحتمل لا يقابل الظاهر. فإذا انعدم التصريح بالوجه المحتمل كان الكلام محمولاً على الظاهر. إليه أشار بقوله وبعض هذا قريب من بعض ولكن هذا على ما يقع عليه معاني الكلام. ولو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنوني في أهل حصني أو مع أهل حصني أو وأهل حصني لم يدخل الأموال في شيء من هذا لأن اشتراط الأمان لهم جزاء على فتح الباب مطلقاً. ولو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنوني على ألف درهم. فهو آمن وماله كله فيء. إنما له ألف درهم يعطيه الإمام من أي موضع شاء لأنه شرط ألف درهم مطلقاً مع أمان نفسه جزاء على الفتح وفي مثل هذا الأمان لا يدخل ماله ولكن يدخل ما شرط من الألف عوضاً على فتح الباب. فإذا فتح أعطي ما شرط له من العوض. وكذلك لو قال: أفتح الحصن وتؤمنوني على ألف درهم فإن الواو هنا بمعنى الحال يعني في الحال ما تؤمنوني على ألف درهم. فيكون شرطاً. كقوله لامرأته: أنت طالق وأنت مريضة. فإن قال: أفتح الحصن فتؤمنوني على ألف درهم من مالي أو على أن تؤمنوني فإنما له ألف درهم من ماله والباقي كله فيء. وإن لم يف ماله بألف درهم لم يكن زيادة على ماله لأنا علمنا أنه لم يجعل الألف لنفسه عوضاً فإنه أضاف الألف إلى نفسه بقوله: من مالي. وماله لا يسلم له عوضاُ عن فتح الباب بل يسلم له بأن أعطي الأمان في ماله كما في نفسه. وبطريق الأمان لا يسلم له زيادة على ماله بخلاف الأول. فقد أطلق تسمية الألف بمقابلة منفعة شرطها على نفسه للمؤمنين فيكون ذلك عوضاً بمنزلة الأجير يقول: أعمل لك هذا العمل على درهم ولو قال: أعمل لك هذا العمل على درهم من مالي لم يكن ذلك إجازة. وإن لم يكن ماله دراهم ولكنه كان عروضاً أعطي من ذلك ما يساوي ألفاً لأنه قال: من مالي. فإنما جعل المشروط فيه الأمان جزء من ماله وبصفة المالية الأموال جنس واحد بخلاف ما إذا قال: علي ألف درهم من دراهمي. لان المشروط فيه الأمان هناك جزء من دراهمه فإذا لم يكن له دراهم لم يصادف هذا الأمان جزء من ماله وبصفة المالية جنس واحد بخلاف ما إذا قال: علي ألف درهم من دراهمي. لأن المشروط فيه الأمان هناك جزء من دراهمه فإذا لم يكن له دراهم لم يصادف هذا الأمان محله فكان لغواً. ونظيره الوصية إذا قال: أوصيت لفلان بألف درهم من مالي. أعطي ألف درهم من ماله وإن لم يكن له دراهم وإن قال: من دراهمي لم يعط شيئاً ثم ذكر سؤالاً فقال: إذا قال: علي ألف من مالي لماذا لا يجعل شرطاً للألف على نفسه للمسلمين عوضاً عن الأمان فيصير كأنه شرط لهم فتح الحصن وألف درهم عن نفسه عوضاً عن أمانه. قلنا: لأن في هذا إلغاء هذا الشرط. فإنه لو فتح الباب ولم يذكر هذه الزيادة كان ماله كله فيئاً. فعرفنا أنه ليس مراده وتؤمنوني على ألف من مالي أن تكون الألف للمسلمين من ماله وإنما مراده أن يكون الألف سالماً له من ماله بطريق الأمان وما سواه فيء للمسلمين. ألا ترى أنه لو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنوني على دقيقي أو على مالي أو على سلاحي كان ذلك محمولاً على طلب الأمان لهذه الأشياء مع نفسه. فكذلك قوله: على ألف من مالي ولو قال: على عشرة أرؤس من الرقيق أو على عشرة أفراس كان ذلك عوضاً بمنزلة قوله: على ألف درهم مطلقاً لأن الرقيق يصلح عوضاً عما ليس بمال كالدراهم وفتح الباب بهذه الصفة فللمسلمين أن يعطوه الأرؤس من أي موضع أحبوا بخلاف ما إذا قال: رقيقي أو كراعي ولو لم يشترط فتح الحصن ولكن قال: آمنوني حتى أنزل إليكم على ألف درهم أو قال: على ألف درهم من مالي فأمنوه فعليه ألف درهم في الوجهين جميعاً لأنه ما شرط في مقابلة ما التمس من الأمان منفعة للمسلمين فعرفنا أن مراده بذكر الألف أن يكون عوضاً للمسلمين على أمانه سواء أطلق أو قال: من مالي وهذا لأن بنزوله يتوصل المسلمون إلى ماله الذي في الحصن ليكون ذلك دلالة التماس الأمان في هذا القدر من ماله. وإذا حملنا على اشتراط العوض كان مفيداً للمسلمين بخلاف ما سبق. وكذلك لو قال: على عشرة أرؤس من الرقيق أو من رقيقي فهذا عوض. وقد فدى به نفسه فعليه أن يدفع ذلك إلى المسلمين. ولو قال: على أهلي أو ولدي أو مالي فهو آمن وجميع ما نزل به من ذلك ولا شيء عليه لأن أهله وولده ليس بمال ولم تجر العادة بأن يجعلهم المرء فداء لنفسه بل يجعل نفسه وقاية دونهم. فعرفنا أن مراده التماس الأمان لهم مع نفسه. وكذلك إذا ذكر المال مطلقاً لأن ذلك مجهول الجنس والصفة والقدر فلا يصلح أن يكون فداء ولأنه لا يفدي نفسه بجميع ماله عادة إذاً يهلك جوعاً. ولو قال: أمنوني على رقيقي على أن أنزل فهو آمن ورقيقه. ولو قال: على نصف رقيقي كان هذا فداء وباعتبار حقيقة المعنى لا يتضح الفرق بينهما ولكن باعتبار عرف الناس. فإن الإنسان يفدي نفسه ببعض ما يأتي به معه ليتعيش آمناً بما بقى ولا يفدي بجميع ما ينزل به فإذا ذكر نصف المال أو نصف جنس من المال فالغالب أن مراده الفداء وإذا ذكر جميع المال أو جميع جنس من المال كالرقيق فالغالب أن مراده طلب الأمان لذلك الجنس مع نفسه فإذا ذكر ما ليس بمال كالزوجة والولد فالغالب أن مراده الاستئمان لهم لا الفداء سواء ذكر عدداً منهم أو ذكر جماعتهم وهو بمنزلة ما لو ذكر إنساناً آخر بقوله: آمنوني على فلان فإنه يكون ذلك طلب الأمان لفلان لا جعله فداء لنفسه. فإن قال: أمنوني على عشرة من رقيقي حتى أنزل فهذا فداء. فإن نزل معه بماله وزوجته فهم فيء أجمعون لما بينا أن في أمان النازل لا يدخل سوى ما عليه من اللباس ألا ترى أن في الأمان بغير فداء لا يدخل المال والعيال فكذلك في الأمان بالفداء. ولكنه إن نزل معه بمثل ما اشترط في فدائه فقال: جئت به للفداء الذي شرطتم علي فالقياس أن يكون ذلك فيئاً فيكون عليه فداء آخر لأن الأمان له بعد النزول وذلك لا يتناول ما معه من المال فصار المال فيئاً للمسلمين وهو لا يتمكن من أداء ما التزمه من الفداء بفيء للمسلمين ولكنه استحسن فقال: يحسب له هذا من الفداء لأنه يتمكن من أداء ما التزمه بماله وهو ينزل إلينا ولا مال له عندنا. وإذا لم ينزل بهذا القدر مع نفسه لا يتمكن من الفداء. فكان اشتراط الفداء عليه تسليطاً له على أن يأتي به كما أن اشتراط بدل الكتابة على المكاتب يكون تسليطاً له على الاكتساب وتمليكاً لليد والكسب منه. فإن كان المشروط عليه عشرة أرؤس فجاء بأحد عشرة كان لنا أن نأخذ الكل: عشرة بالفداء والباقي لأنه فيء لأن الاستحسان في مقدار حاجته إلى الفداء وفيما زاد عليه يؤخذ بالقياس وكذلك لو جاء بعشرين رأساً فقال: جئت بها لتبيعوها فإنه يؤخذ الكل منه باعتبار القياس كما ذكرنا. وإن جاء بصنف غير الرقيق فقال: أردت أن أبيعه وأعطيكم القيمة فإنه يقبل ذلك منه مع يمينه استحساناً لأن الرقيق في معاوضة ما ليس بمال مطلقاً يثبت متردداً بين العين وبين القيمة وبأيهما جاء قبل منه. فكانت المجانسة بين الفداء وبين ما جاء به ثابتة باعتبار المالية فلهذا يصدق في ذلك. وهذا إذا قال: على عشرة أرؤس من الرقيق وأما إذا قال: من رقيقي ثم جاء بالدراهم فذلك فيء وهو مطالب بما التزمه من الفداء لأنه بإضافة الرقيق إلى نفسه يصير معيناً لهم. فكأنه عينهم بالإشارة وفي مثل هذا لا يؤخذ منه القيمة مكان العين فإن قال: لم يدعني أهل الحصن أنزل إليكم بذلك فجئت بالقيمة. لم يصدق على ذلك لأن ما جاء به من الدراهم صار غنيمة للمسلمين فلا يصدق على أن يجعل ذلك محسوباً عليهم بالفداء. وذلك لأنه كان متمكناً من أن يبين للمسلمين قبل نزوله أنهم يمنعونه من النزول بالرقيق حتى يأذنوا له في النزول بالقيمة. فإذا لم يفعل كان التقصير منه وإن فعل ذلك فأذنوا له في النزول بالقيمة كان ما يأتي به من الدراهم فداء ولا يكون فيئاً. ولو أن صاحب القلعة قال: أمنوني على قلعتي أو على مدينتي على أن أفتحها لكم. فإن جرى كلام يدل على أن المراد عين القلعة والمدينة بأن قال: إني أخاف إن فتحت لكم أن تهدموا قلعتي أو تخربوا مدينتي فقالوا له: أنت آمن على قلعتك ومدينتك. فهذا عليهما خاصة دون ما فيهما من الأموال والنفوس لأن مطلق الكلام يتقيد بما سبق من دلالة الحال. وإنما جعلوا له الأمان جزاء على فتح الباب. ومقصودنا من ذلك الاستغنام فعرفنا أن الأمان يختص بما سمي له إلا أنه يأمن بماله وولده وعياله لأنه استأمن على قلعته ليتمكن من القرار فيها وتمكنه بهذه الأشياء. ففي هذا الحكم يشبه حاله حال المستأمن إلى دارنا للتجارة. فأما إذا لم يسبق كلام يكون دليلاً على تخصيص ففي القياس الجواب كذلك أيضاً لما بينا أن المقصود من فتح الباب هو الاستغنام والاسترقاق. ثم ليس في لفظة القلعة والمدينة ما ينبئ عن أهلها أو عما فيها ولعله إنما استأمن لهذه الصفة لخوفه على القلعة أن تقلع وعلى المدينة أن تحرق أو تخرب. وقد كان ذلك مسقط رأسه ومسكن آبائه فقصد بالأمان إبقاؤها دون إبقاء من فيها وفي الاستحسان هذا أمان على القلعة والمدينة وعلى جميع ما فيها لدلالة العرف فإنه إذا قيل هذه مدينة عامرة أو قلعة حصينة يفهم منه عمارتها بكثرة أهلها لا بجدرانها. أرأيت لو قال: آمنوني على مملكتي على أن أفتح لكم القلعة أليس يفهم من هذا اللفظ جميع ما في مملكته من النفوس والأموال ولأن مقصوده أن تبقى له المدينة والقلعة على ما كانت من قبل ويكون هو المتصرف في أهلها كما كان. وإنما يحصل هذا المقصود إذا دخلوا في الأمان. ولو أشرف رجل من أهل الحصن فقال: أفتح لكم على أن تؤمنوني من مالي على ألف درهم. فله ألف درهم من ماله بطريق الأمان لا بطريق العوض. كما في قوله: على أن تؤمنوني على ألف درهم من مالي. إذ التقديم والتأخير في هذا لا يوجب اختلاف المعنى وكذلك لو قال: على ألف درهم فلا فرق بين أن يقدم ذكر الألف على أمان نفسه أو يؤخره في أن يكون عوضاً شرطه عليهم بفتح الباب. ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني بألف درهم كان آمناً وحده. وكان عليه ألف درهم يكتسبها فيؤديها لأن جميع ماله يصير فيئاً بفتح الباب لو لم يقل بألف درهم فكذلك إذا قال: بألف درهم. وهذا لأن حرف الباء يصحب الأعواض. فإذا وصل الألف بأمان نفسه بحرف الباء كان ذلك تنصيصاً على أن الألف عوض عن الأمان والأمان حاصل له. فكان الألف عليه بمنزلة من يقول لغيره: وهبت هذه العين منك على أن تبيعني جاريتك هذه بمائة دينار كانت المائة عوضاً عن الجارية. وكذلك لو قال: أفتح لكم وتؤمنوني بألف درهم. ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني من مالي بألف درهم. فالألف عوض عن أمانه أيضاً إلا أنه يؤخذ منه من ماله مقدار الألف وجد مكان ما عليه عوضاً من الأمان بخلاف الأول لأن هاهنا عين لما التزم من العوض محلاً مخصوصاً وهو ماله الذي في يده وعلى ذلك أعطيناه الأمان. ولا بد من أن يأخذ ذلك القدر منه بطريق الفداء لا بطريق الاستغنام وفي الأول التزم العوض في ذمته من غير أن عين له محلاً فيبقى ماله فيئاً كما هو موجب فتح الباب على وجه إتمام القهر. وإن لم يجدوا له مالاً هنا فعليه ألف درهم يؤديها إلى المسلمين لأن الأمان قد سلم له فيلزمه العوض بمقابلته. ولكنه كان يعطي ذلك العوض من المال الموجود في يده إن كان فإذا لم يكن فقد عرفنا أن مراده من المال الذي يكسبه. ولو لم يذكر فتح الباب ولكن قال: أمنوني حتى أنزل إليكم بألف درهم من مالي أو من مالي بألف درهم. فهذا فداء لأن حرف الباء يصحب الأعواض. فإنما التمس أماناً بعوض. وقد نال ذلك حين نزل فعليه إذاً الألف. وكذلك لو كان بحرف على هنا لأنه لم يشترط على نفسه للمسلمين منفعة حتى يكون ذكر الألف شرطاً شرطه لنفسه على المسلمين عوضاً فتكون الألف عوضاً عن أمانه في الوجهين. ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني على أهلي وألف درهم. أو قال: بأهلي وألف درهم فهو سواء. وله ألف درهم من ماله مع أهله وما سوى ذلك فيء لأن الأهل ليس بمال فلا يكون ذكره الألف على سبيل البدل عن أمانه سواء ذكره بحرف على أو بحرف الباء ولكنه على وجه الاستئمان لهم. ثم الواو للعطف وحكم العطف حكم المعطوف عليه. فإذا كان المعطوف عليه استئماناً كان المعطوف كذلك. ولو بدأ بالمال فقال: أفتح لكم وتؤمنوني على ألف درهم وعلى أهلي وولدي كان آمناً على ألف يعطونها إياه وعلى أهله وولده وما سوى ذلك فيء لأن شرط ذلك كله لنفسه جزاء على فتح الباب فما يصلح عوضاً وهو الألف يعطوا له إياه. وأهله وولده كنفسه في أنه شرط أمانهم جزاء على الفتح. ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني بألف درهم وبأهلي وولدي. فعليه الألف وأهله وولده كلهم فيء لأن حرف الباء محكم في الأعواض. فقد قرنه بالألف فكان عوضاً عن أمانه وقرنه بالأهل والولد أيضاً وعطفهما على العوض أيضاً. فكان تنصيصاً على أن كل ذلك عوضاً عن أمانه فإذا بدأ بالأهل فقال: على أن تؤمنوني بأهلي وألف درهم فالقياس هكذا يقتضى. ولكن الاستحسان: الأهل ليس بمال ليصلح أن يكون عوضاً. فاستدللنا بذلك على أن المراد الاستئمان للأهل جزاء على الفتح وقد عطف الألف عليه فيكون ذلك استثناء الألف من ماله من جملة ما يكون فيئاً. ألا ترى أنه لو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني بجميع قرابتي وبأهلي وولدي وبألف درهم فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أن هذا كله استثناء لا فداء. ولو قال: أنزل إليكم على أن تؤمنوني على أهلي وألف درهم أو بأهلي وألف درهم. فهو سواء. وله أهله وألف درهم من ماله الذي نزل به. وما سوى ذلك فيء كما هو الحكم في أمان النازل لأنه عطف الألف على الأهل ومراده في حق الأهل الاستئمان دون الفداء فكذلك فيما عطف عليه. ولو قال: بألف درهم وأهلي. فهذا فداء. وعليه أن يعطيهم ألف درهم وأهله لأن الألف عوض حين قرن به حرف الباء ثم عطف الأهل عليه فكان ذلك تنصيصاً على الفداء. قال: وبعض هذا أقرب من بعض. ولكن إنما يؤخذ بالغالب من معاني كلام الناس في كل فصل إلا أن يكون قبل ذلك مراوضة تدل على فداء أو على أمان عليه فيؤخذ بذلك لأن الكلام يحتمل كل واحد من المعنيين. فإذا سبق ما يكون دليلاً على أحد المعنيين ترجح ذلك وإذا لم يسبق حمل على أغلب الوجهين. كما هو الحكم في المشترك إذا ترجح أحد المحتملين فيه بدليل في صيغته. ولو قال: أفتح لكم وأعطيكم مائة دينار على أن تؤمنوني على عشرة آلاف درهم من مالي. فعليه بعد فتح الباب أن يعطيهم مائة دينار وعليهم أن يسلموا له عشرة آلاف من ماله كما استثناه لنفسه وهذا لا يكون فداء لأنه لو لم يذكر المائة الدينار كان ذلك استئماناً منه على عشرة آلاف من ماله فكذلك إذا ذكر المائة الدينار شرطاً للمسلمين على نفسه مع فتح الباب. ولو قال: أفتح لكم وأعطيكم مائة دينار عل ان تؤمنوني بألف درهم. فعليه مائة دينار وألف درهم لأنه صرح بكون الألف عوضاً عن أمانه حين وصل حرف الباء بذكره وصرح بكون الدنانير عوضاً عن أمانه حين شرط على نفسه أن يعطيها للمسلمين إلا أن يقول: بألف درهم آخذها أو تعطونها فحينئذ يكون ذلك تنصيصاً على اشتراط الألف على المسلمين لنفسه عوضاً. وهذا تفسير ما قال إن هذا الكلام يحتمل معنيين. يعني بقوله ألف درهم. أي بألف درهم التزمها أو بألف آخذها منكم. فإذا جاء دليل أخذ به وإذا لم يأت دليل أخذ بما هو
|